خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 27 من شوال 1441هـ - الموافق 19 / 6 / 2020م
انْتِظَارُ الفَرَجِ
إِنَّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ ونَسْتَغْفِرُهُ، ونَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا ومِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، ومَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَّمَ تَسْلِيماً كَثِيرًا، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:102]، ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:1]، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ:
فَإِنَّ أَصْدَقَ الحَدِيثِ كَلَامُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ:
لقد شاء الله تعالى أن تكون الحياة الدنيا دار امتحان واختبار، وجعلها جل جلاله قنطرة عظة واعتبار، ففيها أفراح وأتراح، وآمال وآلام، وفيها صحة وأسقام، وهكذا جُبلت، فمن رام منها غير ذلك فقد عوّل على المستحيل، وخالف سنة الله سبحانه وتعالى في كل خَلق وجيل، { ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أيُّكُمْ أحْسَنُ عَمَلا﴾ [الملك:2]. وإنّ حال المؤمن عند المصائب يختلف عن غيره من الناس؛ إذ يقابل الابتلاءات بالصبر عليها، واحتساب الأجر فيها، وبالتزام التضرّع والدعاء؛ طلبًا لكشف الضرّ والبلاء، وبانتظار الفرج من الله عز وجل، فيما يخاف وفيما يؤمّل، فهو يحقق شطري الإيمان: الصبر والشكر، كما في حديث صُهَيْبٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «عَجَبًا لِأمْرِ الْمُؤمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لِأحَدٍ إلَّا لِلْمُؤمِنِ، إنْ أصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإنْ أصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ»[أخرجه مسلم].
أيها المسلمون:
إن المسلم إذا أصيب بمصيبة فصبر واحتسب الأجر بثباته؛ أثابه الله وكفّر عنه من سيئاته وخطيئاته، وإذا انتظر الفرج من الله الغفور الرحيم؛ أثيب على انتظاره بالأجر العظيم؛ لأن انتظار الفرج حسن ظنٍّ بالله عز وجل، وحسن الظن بالله سبحانه وتعالى عمل صالح يثاب عليه المؤمن، عن وَاثِلَةَ بْنِ الْأسْقَعِ رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: " قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، فَلْيَظُنَّ بِي مَا شَاءَ "، وعن أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: " أنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، إنْ ظَنَّ بِي خَيْرًا فَلَهُ، وَإنْ ظَنَّ شَرًّا فَلَهُ "[أخرجهما أحمد وابن حبان وصححهما الألباني]. ولعل من العبادة انتظارَ الفرج؛ لأن فيه ثقةً بالخالق المقدِّر، وحسنَ ظن وقوةَ رجاء بالبارئ المقتدر، فانتظار الفرج انتصار على اليأس والقنوط، وحرص على العمل من الردّ والحُبوط ﴿{إنَّهُ لا يَيئسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إلا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾[يوسف:87]، ﴿قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إلَّا الضَّالُّونَ﴾ [الحجر: 56]، وفيه تصديق لخبر ربّ السماء ﴿إنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾ [الشرح: 6]، وتسليم لوعد الله واطمئنان لسنته في خلقه تبارك في علاه، ﴿سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً﴾ [الطلاق:7]، وتشوّف إلى لطفه بعباده ورحمته ﴿إنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنْ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]، ويقين برعايته للمؤمنين وولايته ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إلَى النُّورِ﴾ [البقرة:257].
وانتظار الفرج: ثقة بالله في رفع البلاء وكشف الضرّ، وفي استجابة الدعاء وإجابة المضطرّ ﴿أمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأرْضِ أإلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ﴾ [النمل:62].
بارك الله لي ولكم بالوحيين، ووفقنا لهدي سيد الثقلين، أقول ما سمعتم وأستغفر الله العلي العظيم، واستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله واهب النعم ومزيل النقم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا يكشف البلاء ولا يدفع الداء ولا يُنْزل الشفاء إلا هو سبحانه ذو الجلال والكرم، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيّد العُرْب والعجم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد:
فاتقوا الله الذي خلقكم، واستعينوا على طاعته بما رزقكم، واشكروه على نعمه كما أمركم؛ يزدكم من فضله كما وعدكم.
إخوة الإسلام:
إن انتظار الفرج بعد الشدائد من خُلق الصالحين، وارتجاءَ ثواب الله عند المصائب من صفات أهل اليقين، وما من شدة إلا وبعدها فرج من الله للمضطرين، ولا عسر إلا ويعقبه يسر لعباد الله المحسنين، فهذا خليل الله إبراهيم عليه الصلاة والسلام بلغت به الشدة ذروتها حين ألقاه قومه في النار، فجعل اللهَ حسيبَه فنجّاه الله من النار ورد عنه كيد الفجار، وهذا نبي الله يعقوب طال صبره على بلواه في ابنه يوسف عليهما الصلاة والسلام، ولكنه لم يقنط بل أمّل ورجّى فرد الله عليه بصره وأتاه بأبنائه الثلاثة الكرام، وهذا نبي الله أيوب صبر حتى ضُرب به المثل في التحمل والاصطبار، ففرّج الله له وكشف ما به من الضر وآتاه أهله ومثلهم معهم بعد جميل الصبر وطول انتظار، وهذا نبي الله يونس التقمه الحوت، فدعا ربه فاستجاب له ونجّاه من الغمّ والموت، ﴿فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أنْ لا إلَهَ إلَّا أنْتَ سُبْحَانَكَ إنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ. فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤمِنِينَ﴾ [الأنبياء : 86-87].
وهكذا هي سنة الله الماضية في عباده من النبيين والصالحين، و ليس بخاف عليكم ما كان لنبينا محمد عليه الصلاة والسلام ولصحبه الكرام من السعة بعد التضييق، ومن اليسر والفرج بعد العسر والضيق، كما في غار ثور ووقعة بدر الكبرى، وفي فتح مكة ويومِ حنين وغزوةِ مؤتة، وفي غيرها من المواطن التي فرّج الله فيها لعباده المؤمنين، واستجاب فيها ضراعات الملهوفين ودعوات المضطرين.
معشر المؤمنين:
من أراد الفرج بعد الشدة، فلا مناص من أن يُعدّ العُدّة، ومن ذلك ملازمة الدعاء مع حضور القلب وإظهار الافتقار؛ فعن أبِي بَكْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَعَوَاتُ الْمَكْرُوبِ اللَّهُمَّ رَحْمَتَكَ أرْجُو، فَلَا تَكِلْنِي إلَى نَفْسِي طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَأصْلِحْ لِي شَأنِي كُلَّهُ، لَا إلَهَ إلَّا أنْتَ»[أخرجه أحمد وأبو داود وحسنه الألباني]، وعَنْ أبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «مَنْ سَرَّهُ أنْ يَسْتَجِيبَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ الشَّدَائدِ وَالكَرْبِ فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ»[أخرجه الترمذي والحاكم وحسنه الألباني]. ومن أراد استجابة الدعاء ورفع البلاء؛ فليكثر من العبادة والطاعة في الرخاء؛ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «احْفَظِ اللَّهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللَّهَ تَجِدْهُ أمَامَكَ، تَعَرَّفْ إلَيْهِ فِي الرَّخَاءِ، يَعْرِفْكَ فِي الشِّدَّةِ... وَاعْلَمْ أنَّ فِي الصَّبْرِ عَلَى مَا تَكْرَهُ خَيْرًا كَثِيرًا، وَأنَّ النَّصْرَ مَعَ الصَّبْرِ، وَأنَّ الْفَرَجَ مَعَ الْكَرْبِ، وَأنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا»[أخرجه أحمد وصححه الألباني].
وتقوى الله تعالى في فعل مأموراته، واجتناب منهياته، والصبر على ابتلاءاته: فرج ومخرج من كل هم وضيق، قال جلَّ شأنُه: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً﴾. وقالَ سبحانه: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أجْراً﴾، وقال عز من قائل: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أمْرِهِ يُسْراً﴾. فإذا اشتد الكرب، وعظُم الخطب؛ كان الفرج حينئذٍ قريبًا بإذن الله؛ فإن البلاء لا يدوم، وفرج الله لعباده محتوم:
عسى فرجٌ يأتي به الله إنَّـــــــــــــه لـــــه كلَّ يــــــــومٍ في خليقته أمرُ
عسى ما ترى ألاَّ يدوم وأن ترى لـــــــــه فرجاً ممَّا ألحّ به الدَّهرُ
إذا اشتدَّ عسرٌ فارج يسرًا فإنَّــــه قضى الله أنَّ العسر يتبعه اليسـرُ
اللَّهُمَّ ارْفَعْ عَنَّا البَلَاءَ وَالوَبَاءَ وَالغَلَاءَ، اللَّهُمَّ إِنّا نسْأَلُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، اللَّهُمَّ نسْألُكَ الْعَفْوَ وَالْعَافِيَةَ فِي دِيننا وَدُنْيَانا وَأهْلِنا وَمَالِنا، اللَّهُمَّ اسْتُرْ عَوْرَاتِنا وَآمِنْ رَوْعَاتِنا، وَاحْفَظْنا مِنْ بَيْنِ أيدينا وَمِنْ خَلْفِنا، وَعَنْ أيَمانِنا وَعَنْ شِمَائِلِنا، وَمِنْ فَوْقِنا، وَنعُوذُ بِكَ أَنْ نُغْتَالَ مِنْ تَحْتِنا. اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ والمُسْلِمَاتِ؛ الأَحْياءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ، وَاشْفِ مَرْضَانَا وَمَرْضَى المُسْلِمِينَ، إِنَّكَ قَرِيبٌ سَمِيعٌ مُجيبُ الدَّعَواتِ. اللَّهُمَّ وَفِّقْ أَميرنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِمَا تُحِبُّ وَتَرْضَى، وَخُذْ بِنَواصِيهِمَا لِلبِرِّ وَالتَّقْوى، وَاجْعَلْ هَذا البَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا، سَخَاءً رَخَاءً وَسَائِرَ بِلَادِ المُسْلِمينَ.